Friday, May 1, 2020

مُحادثات مبتورة [على هامش الحياة]


مُحادثة أولى:

كلما حاولت أن أكتب عن سِواكِ، حاصرت عيونُكِ أحرفي.
يا أنتِ، في فنِ الحربِ طولُ الحصارِ يُنهِكُ الطَرَفَين، فما بالُ طرفُكِ لا يملُّ حِصاري.
كما ترين طولُ الحِصارِ أسقط القافية.
كُلُ هذي الكتابة عنكِ خيانةٌ في صفوف الحرف، ثمةَ حنينٌ بين أحرفي.
إنها حروفُ إسمي تبدو عليها علاماتُ الحنين، أثملتِها حين نطقتِها آخر مرة.
خياراتُ الحِصار محدودةٌ جداً وهي أن يملَّ أحد طَرَفَيهِ أو يفنى، جانبي يبدو مُزعزعاً جداً، عليّ الأن أن أُحاصر نفسي حتى لايُسْقِطني حِصارُكِ.
نجح الحِصار سواءً سَقَطَ الحرفُ أم لا، كُل هذا الإبتذالُ دليلُ نجاحه.
عَزَّزتِ الحِصار بقوسِ الإبتسامة.
ضاق الخِناق، الأُخرياتُ تلاشين.
الآن، لا أملِكُ من المجازِ ما يكفي لأكتُب عنكِ، فلتفنى الكتابة.

***
مُحادثة ثانية:
هأنذا أقِفُ مرةً أُخرى علي حافةِ الكتابةِ عنكِ.
يا أنتِ، نِلتُ ما يكفي من هزائِمِ الحنين ولا قِبل لي بأُخرى.
يا أنتِ، لم يبق لي من الأحرفِ ما يكفي لمجابهةِ الحنين وكِلانا يعلم أنه لاوجود لِما يُسمى بالهبوطِ الآمن حين السقوطِ في هاويةِ الكتابةِ عنكِ.
يا أنتِ، أنا لا أملِكُ الآن إلا أن أرتد على عقبيّ، أن أُدير ظهري وأمضي.
***
مُحادثة ثالثة:
صمتُ القصائدِ صعبٌ عليّ
وبوحُ القصائدِ صعبٌ عليكِ

ليسَ ذنبكِ أبداً إن لم تفهمي كُل رسائلي المُبهمة، هذا التعقيد خطيئتي وحدي.
فعشقي خطيئةُ قلبٍ هواك
وعاش المحبةَ فيكِ سِنينا

لم يكُن الذنبُ أبداً ذنبكِ، فأنا الذي إعتاد تدوير الرسائل القديمة ليُعبّر عن أشياء جديدة، والآن أُدركُ أن الحروف القديمة لم تكُن مناسبة، أعتذر.
إخراجُ الكلماتِ من سياقِ الحبيباتِ السابقاتِ للقادِماتِ أمرٌ خطر، فالعبارات التي صيغت لإحداهُن خِصيصاً لن تُناسب أُخرى مُطلقاً.
وما إزددتُ بعدكِ إلا ضياعاً
فكيف السبيلُ إلى ناظريك

هذه مثلاً لن تُناسِب أُخرى أبداً.
بعض الرسائل كانت تخُصُكِ وحدكِ لكن كما أسلفت لا ذنب لكِ إن لم تنتبهي لها وسط هذا الكم من التعقيد وإجترار الكلام.
قلت لإحداهُن قبلاً
"ما كُنتُ أحسبُ أنني يوماً
سأعشقُكِ إبتسامة
وأخُطُ من عينيكِ نثراً وقوافي"

لن يتناسب هذا النص معكِ، فأنا قد خططتُ من عينيكِ نثراً وقوافي، لكني كنتُ أعلم مُذ رأيتُكِ أول مرة، وهنا يكمُن الفرق.
أما وقد حانت النهايات فشكراً على كسرِ حاجزِ اللُغة، شكراً على الوزن الجديد على المواعيد المُعلّقة وكل إبتسامة :).
نجح الحِصار .. سقط الوزن.
***
مُحادثة رابعة (عنها):
"دعينا نتحدث قليلاً عن النهايات المُبهمة، فترات الصمت التي لا تنتهي، عقولنا المليئة بالتساؤلات، قلوبنا التي تضجُ بالغائبين وعن جفاف الألسن" - أردتُ أن اقول لها.
أنا ياصديقتي مُثقلٌ بجُمل الوداع التي لم أقلها، تلك التي أرهقتني طيلة هذا الزمان أرّقتني وأصابتني برهاب المسافة.
أنا يا صديقتي لا يُخيفني غيابهم فهم حاضرون رغم كُل شيء، إنما يُرعبني أنهم حين يغيبون، يأخذونني معهم فأغيبُ عني.
أما الحروف ياصديقتي، إنما تُلقي مرساتها داخلي وتطوي شراعها وتأبى أن تُخط لغيرهم.
وتُرهقني في تمنُعِ الحروف يا صديقتي تلك الأفكار التي تتعفن في رأسي ولا تجد سبيلاً لتخرُج.
في غيابهم أشكو الصُداع كثيراً.
للغياب ألوانٌ مختلفة وبعضُ الحاضرين غائبون.
قيل ان في الدمع راحة، تلك التي حرّمها علينا أجدادنا حين قالوا "مافي راجل ببكي" فنحن حين يؤلمنا الفراق نصمت، وحين نشتاق نصمت.
الحِبرُ مُقسمٌ قلبه بين أن يظل في جوف القلم أم يُغادر إلى سطح الورقة التي لن يصل جوفها أبداً.
لم يعد للقلب حنايا يسكنها وجع بل صار وجعاً ينطوي على حنايا.
الصمت يُغري سفينة الحرف بالغرق.

***
مُحادثة خامسة (لها):
دعينا نتحدث قليلاً عن النهايات المُبهمة، فترات الصمت التي لا تنتهي، عقولنا المليئة بالتساؤلات، قلوبنا التي تضجُ بالغائبين وعن جفاف الألسن.
عن تلك المحادثات التي ماتت فجأة والإبتسامات التي تخشّبت على وجوهنا، عن الكلمات التي ما تزال عالقةً بالحناجر كغصة أبدية عن رهاب البوح.
عن التحايا الفاترة -إن وجِدت-، الحوارات الآلية الجُمل المقتضبة المُكررة المحفوظة الملفوظة بعناية كي لا نسقُط سهواً لُجة "أشتاقُكِ".
عن زيف "الحمد لله كل حاجة تمام" عن غباء "الجديد شنو".
عن تنافر العيون كقُطبين متشابهين بعدما كانت بينها جاذبية العالم أجمع.
عن الحنين الصامت الذي يقتات على الدمع الذي يسقط على الروح، عن نار الغيرة تحت رماد الفراق.
عن نوبات الغضب غير المبررة حين مرورٍ بالذاكرة.
عن إبتسامةٍ بلهاء يتلوها حُزنُ عميق.
-لم يعُد لي-.

عن كُل تِلك الأشياء التي لم نجرؤ على قولها يوماً لأنها كانت تعني الضعف، ولم نُدرك أنّا كُنا أضعف من أن نقول، هذه هي الحقيقة.
عن كُل تلك التصرفات الحمقاء التي ظننا أنا سنندمُ جداً إن قمنا بها، والآن تتأكل أرواحنا لفرط ندمنا أنا لم نفعلها.
عن كُل "أُحبُكِ" منعها الخوف أو الغضب، عن كُل آسف حال دونها الكبرياء.
تلك هي مساحاتُ الصمت التي لا تنتهي وذاك جفافُ الألسُن.

أحببتُكِ جداً، آسف.
***
مُحادثة سادسة (معها):
أخبرتُكِ قبلاً أني أُعاني رهاب المسافة وأن هذه المسافة التي نُحافظ عليها بيننا، تُخيفني جداً.
'أنا لا أخاف إلا الله' أنا لستُ أهلاً لهذا الشعار، لستُ على تلك الدرجة من الإيمان، أخاف الفقد، الحزن والمسافات.. ليس كخوفي من الله، لكني أخافها.
وهذا الخوف يُخيفني أيضاً، الأمر أكبر من أن أستطيع شرحه.
هذه المسافة التي لا تتأثر بالخُطى، فلا خُطاي إليك تُسقِطُ منها شيئاً ولا هي تقتات على الخُطى الهاربة فتتسع.
مسافةٌ كثوابتِ الفيزياء مُزعجةٌ ولا غِنى عنها.
المسافة التي -نظنُ أنها- تحولُ دون إختناقي في البُعد، ودون إحتراقي في القُرب.
أقتبسُ هنا أن "كُل المسافاتِ نِصفُ إتجاه" وهذه المسافة نصفُ عذابٍ ونِصفُ نعيم، هي بيننا لكنها تُحافظُ عليكِ عند طرفها الآخر؛ ذاك الأقربُ للقلب.
سألتُكِ بالأمس أن تُحدثيني قليلاً عن ماهية الأشياء من زاويتكِ أنت،ِ فهذه المسافةُ كالقمر؛ لا تسمح لي إلا برؤية الوجه الذي يُطلُ عليّ.
ويبدو أنها -نفُسُ هذي المسافة- قد منعتكِ من الإجابة خشية أن تتلاشى، هذي المسافة التي نخافُ عليها وتخافُ على نفسها، ونحن! ألا خوفٌ علينا؟!
قيل أن "علينا أن نواجه مخاوفنا" وإنما أُواجِهُ هذه المسافة فقط كي أراكِ، فأنتِ على الجانب الآخر.
هذه المسافةُ التي نحافظُ عليها كأنها تحوي سِر إتزان الكون تُخيفُني جداً، فقط إعلمي.
***
مُحادثة سابعة:
دعيني أُحدِثُكِ قليلاً عن الوَهْن،
تخيلي عصا سليمان -عليه السلام- وهو مُتكئٌ عليها والأرضة تنخرُها.

تخيليها وهي تُحاول التماسُك حتى اللحظةِ الأخيرة والعِبءُ يزداد كُلما شَبِعت منها أرضة ودخلتها أُخرى جائعة.
هي لم تضِق ذرعاً يوماً بالثِقلِ المُلقى على كتفها، أنما أنهكها تآكل الدواخل.
الآن تخيلي إحساسها في تلك اللحظة التي سبقت إنهيارها مباشرةً، لحظة إدراكها النهاية، نفاد طاقتها، إهتراء دواخلها تماماً هذا ما عنيتهُ بالوهْن.
تخيلي عِبء أن تُكلف بحملِ جسدِ نبيّ وانت غيرُ قادرٍ على الوقوف.
تخيلي مِقدار الحسرة التي ملأت قلبها -إن كان لها قلب- حين أدركت أنها فشِلت وأنها ستسقطُ الآن، تتماسك بكُلِ ما فيها لكنها تسقُط.

No comments:

Post a Comment